فضل سورة الفاتحة
عن أَبي سَعِيدٍ رَافِعِ بن الْمُعَلَّى - رضي الله عنه - ، قَالَ :
قَالَ لي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم : (( أَلاَ أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ في القُرْآن قَبْلَ أنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ ؟ )) فَأخَذَ بِيَدِي ، فَلَمَّا أرَدْنَا أنْ نَخْرُجَ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إنَّكَ قُلْتَ : لأُعَلِّمَنَّكَ أعْظَمَ سُورَةٍ في القُرْآنِ ؟ قَالَ : (( الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ ، هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ )) رواه البخاري .
قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد ج4 ص 347-348:
فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَأُمّ الْقُرْآنِ وَالسّبْعُ الْمَثَانِي وَالشّفَاءُ التّامّ وَالدّوَاءُ النّافِعُ وَالرّقْيَةُ التّامّةُ وَمِفْتَاحُ الْغِنَى وَالْفَلَاحِ وَحَافِظَةُ الْقُوّةِ وَدَافِعَةُ الْهَمّ وَالْغَمّ وَالْخَوْفِ وَالْحَزَنِ لِمَنْ عَرَفَ مِقْدَارَهَا وَأَعْطَاهَا حَقّهَا وَأَحْسَنَ تَنْزِيلَهَا عَلَى دَائِهِ وَعَرَفَ وَجْهَ الِاسْتِشْفَاءِ وَالتّدَاوِي بِهَا وَالسّرّ الّذِي لِأَجْلِهِ كَانَتْ كَذَلِكَ .
وَلَمّا وَقَعَ بَعْضُ الصّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ رَقَى بِهَا اللّدِيغَ فَبَرَأَ لِوَقْتِهِ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا أَدْرَاك أَنّهَا رُقْيَةٌ وَمَنْ سَاعَدَهُ التّوْفِيقُ وَأُعِينَ بِنُورِ الْبَصِيرَةِ حَتّى وَقَفَ عَلَى أَسْرَارِ هَذِهِ السّورَةِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ التّوْحِيدِ وَمَعْرِفَةِ الذّاتِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَإِثْبَاتِ الشّرْعِ وَالْقَدَرِ وَالْمَعَادِ وَتَجْرِيدِ تَوْحِيدِ الرّبُوبِيّةِ وَالْإِلَهِيّةِ وَكَمَالِ التّوَكّلِ وَالتّفْوِيضِ إلَى مَنْ لَهُ الْأَمْرُ كُلّهُ وَلَهُ الْحَمْدُ كُلّهُ وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلّهُ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلّهُ وَالِافْتِقَارُ إلَيْهِ فِي طَلَبِ الْهِدَايَةِ الّتِي هِيَ أَصْلُ سَعَادَةِ الدّارَيْنِ وَعَلِمَ ارْتِبَاطَ مَعَانِيهَا بِجَلْبِ مَصَالِحِهِمَا وَدَفْعِ مَفَاسِدِهِمَا وَأَنّ الْعَاقِبَةَ الْمُطْلَقَةَ التّامّةَ وَالنّعْمَةَ الْكَامِلَةَ مَنُوطَةٌ بِهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى التّحَقّقِ بِهَا أَغْنَتْهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَالرّقَى وَاسْتَفْتَحَ بِهَا مِنْ الْخَيْرِ أَبْوَابَهُ وَدَفَعَ بِهَا مِنْ الشّرّ أَسْبَابَهُ .
وهذا أمر يحتاج استحداث فطرة أخرى وعقل آخر وَإِيمَانٍ آخَرَ وَتَاللّهِ لَا تَجِدُ مَقَالَةً فَاسِدَةً وَلَا بِدْعَةً بَاطِلَةً إلّا وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ مُتَضَمّنَةٌ لِرَدّهَا وَإِبْطَالِهَا بِأَقْرَبِ الطّرُقِ وَأَصَحّهَا وَأَوْضَحِهَا وَلَا تَجِدُ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيّةِ وَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَأَدْوِيَتِهَا مِنْ عِلَلِهَا وَأَسْقَامِهَا إلّا وَفِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مِفْتَاحُهُ وَمَوْضِعُ الدّلَالَةِ عَلَيْهِ وَلَا مَنْزِلًا مِنْ مَنَازِلِ السّائِرِينَ إلَى رَبّ الْعَالَمِينَ إلّا وَبِدَايَتُهُ وَنِهَايَتُهُ فِيهَا .
وَلَعَمْرُ اللّهِ إنّ شَأْنَهَا لَأَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ وَهِيَ فَوْقَ ذَلِكَ . وَمَا تَحَقّقَ عَبْدٌ بِهَا وَاعْتَصَمَ بِهَا وَعَقَلَ عَمّنْ تَكَلّمَ بِهَا وَأَنْزَلَهَا شِفَاءً تَامّا وَعِصْمَةً بَالِغَةً وَنُورًا مُبِينًا وَفَهِمَهَا وَفَهِمَ لَوَازِمَهَا كَمَا يَنْبَغِي وَوَقَعَ فِي بِدْعَةٍ وَلَا شِرْكٍ وَلَا أَصَابَهُ مَرَضٌ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ إلّا لِمَامًا غَيْرَ مُسْتَقِرّ .
هَذَا وَإِنّهَا الْمِفْتَاحُ الْأَعْظَمُ لِكُنُوزِ الْأَرْضِ كَمَا أَنّهَا الْمِفْتَاحُ لِكُنُوزِ الْجَنّةِ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلّ وَاحِدٍ يُحْسِنُ الْفَتْحَ بِهَذَا الْمِفْتَاحِ وَلَوْ أَنّ طُلّابَ الْكُنُوزِ وَقَفُوا عَلَى سِرّ هَذِهِ السّورَةِ وَتَحَقّقُوا بِمَعَانِيهَا وَرَكّبُوا لِهَذَا الْمِفْتَاحِ أَسْنَانًا وَأَحْسَنُوا الْفَتْحَ بِهِ لَوَصَلُوا إلَى تَنَاوُلِ الْكُنُوزِ مِنْ غَيْرِ مُعَاوِقٍ وَلَا مُمَانِعٍ .
وَلَمْ نَقُلْ هَذَا مُجَازَفَةً وَلَا اسْتِعَارَةً بَلْ حَقِيقَةً وَلَكِنْ لِلّهِ تَعَالَى حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فِي إخْفَاءِ هَذَا السّرّ عَنْ نُفُوسِ أَكْثَرِ الْعَالَمِينَ كَمَا لَهُ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فِي إخْفَاءِ كُنُوزِ الْأَرْضِ عَنْهُمْ وَالْكُنُوزُ الْمَحْجُوبَةُ قَدْ اُسْتُخْدِمَ عَلَيْهَا أَرْوَاحٌ خَبِيثَةٌ شَيْطَانِيّةٌ تَحُولُ بَيْنَ الْإِنْسِ وَبَيْنَهَا وَلَا تَقْهَرُهَا إلّا أَرْوَاحٌ عُلْوِيّةٌ شَرِيفَةٌ غَالِبَةٌ لَهَا بِحَالِهَا الْإِيمَانِيّ مَعَهَا مِنْهُ أَسْلِحَةٌ لَا تَقُومُ لَهَا الشّيَاطِينُ وَأَكْثَرُ نُفُوسِ النّاسِ لَيْسَتْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَلَا يُقَاوِمُ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ وَلَا يَقْهَرُهَا وَلَا يَنَالُ مَنْ سَلَبِهَا شَيْئًا فَإِنّ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ.اهـ.
وقال الشيخ ابن سعدي رحمه الله في نهاية تفسير هذه السورة:
فهذه السورة على إيجازها، قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن، فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية يؤخذ من قوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ).
وتوحيد الإلهية وهو إفراد الله بالعبادة، يؤخذ من لفظ: (اللَّهِ) ومن قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وتوحيد الأسماء والصفات، وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى، التي أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه، وقد دل على ذلك لفظ (الْحَمْدُ) كما تقدم. وتضمنت إثبات النبوة في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) } لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة.
وإثبات الجزاء على الأعمال في قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وأن الجزاء يكون بالعدل، لأن الدين معناه الجزاء بالعدل.
وتضمنت إثبات القدر، وأن العبد فاعل حقيقة، خلافا للقدرية والجبرية. بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع [والضلال] في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) لأنه معرفة الحق والعمل به. وكل مبتدع [وضال] فهو مخالف لذلك.
وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى، عبادة واستعانة في قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فالحمد لله رب العالمين.